ثقافة عندما يصل ياسر الجرادي إلى المحطة 142.. بقلم شادية خذير
الرحلة الحقيقية ليست ان ترى طبيعة جديدة كما يقول مارسيل بورست
بل أن ترى الحياة بعينين جديدتين
بقلم شادية خذير
ياسر الجرادي رحل باكرا ولكن لعله استكمل الرحلة وأنهى رسالته وفهم المعنى الحقيقي للوجود، اكتشف نفسه ومن خلالها روح المثابرة والحب والبحث عن الوجود. ترجل ثم مشى ببطء ليكتشف الحياة بكل تفاصيلها كما همس له فان غوغ يوما ما.
الأرواح المثابرة، الحيوات المتعددة، الشخصيات المتجددة، كانت تلك نظرته للتجارب الحياتية، حاول أن يكرس حياته ليعيش بين مستويات جمالية ومتعددة وتلك كانت تجربته الكونية.
تجربة بدأت مع الفنون الجميلة بعد أن اختار أن ينهي مغامرة مع الرياضيات والعلوم الصحيحة عندما تركها طوعا.. كانت أغنية جون لينون "تخيل" العالم من دون أديان من دون حدود أعلنت بداية ولادته الفعلية، مع هذه الأغنية طرق باب المحبة والسلام والصوفية.
جلال الدين الرومي يقول ليس أفضل من حب دون حبيب، ليس أصلح من عمل صالح دون غاية، كان كذلك يريد أن يرتفع إلى مرتبة المحب، إلى مرتبة يحب فيها الحب حتى دون حبيب، لم يتردد في إهداء فنه للمهمشين والمعطلين.
كانت حالة الحب وحالة العطاء أهم بكثير من السياق الزماني والمكاني الذي عاش فيه ياسر الجرادي.
رحلة ياسر الجرادي أو ما يسميها هو رحلة الجريد ورحلة ما بعد الكورونا نحو "حافلة الجريد " التي يسميها "حافلة كريستوفر" مثلت نقلة نوعية في حياته وقدمت لنا النسخة الأفضل من ياسر الجرادي، رحلة امتدت على مدى ثمانية وعشرين يوما قطع خلالها ألف وستمائة كيلومترا عابرا ست عشرة ولاية من ولايات الجمهورية تخلص فيها من الرهان الجسدي على تخطي قدرة الجسد ليدخل مرحلة التواصل مع الطبيعة ويحدق في تفاصيلها.
في لحظة ما انتقل ياسر الجرادي من الإنسان العادي إلى إنسان متمرد باحث عن الجمال. الرحلة عادت به إلى عمق كان افتقده، عادت به إلى المعنى إلى كنه الأشياء والعالم.
ألف وستمائة كيلومترا كانت كافية حتى يتحول ياسر الجرادي إلى إنسان آخر غني باللقاءات، قريب من نفسه ومن الجمهور ومن الناس بعد أن تجاوز عقدة الكيلومترات، تحققت ذروة الرحلة لما كتب على الحافلة رقم 142 وهو رقم المحطة الأخيرة المفترض للحافلة في تحية للمغامر كريستوفر ماكندلس الذي أمضى أربعة أشهر في الحافلة التي دوّن فيها أجمل أفكاره وخواطره لمدة أربعة أشهر قبل ان يتوفى في البريّة لتبقى الحافلة السحرية ستون عاما متوقفة ببقعة نائية في الالاسكا وصارت مزارا للمغامرين والزوار من كل أصقاع العالم.
تزامنت زيارة ياسر الجرادي إلى حافلة الجريد الشهيرة مع قرار السلطات الأمريكية نقل الحافلة السحرية من الالاسكا إلى مكان آخر لأسباب قيل إنها أمنية، وحتى يكتمل المعنى في هذه الرحلة قام ياسر الجرادي بكتابة الرقم 142 على الحافلة في تكريم للجوالة والرحالة عبر العالم وهو الذي كان يهوى التخييم والطبيعة والمغامرة.
لم يجد ياسر الجرادي الأشباح التي حدثوه عنها قبل المجيء إلى شط الجريد، كان الصمت والهدوء والسكينة تحتضنانه لتخلد واحدة من أجمل اللحظات التي عاشها خلال رحلة الألف وستمائة كيلومترا.
عاد ياسر الجرادي من رحلة الجريد اكثر تخلصا من الأدران، أكثر خفة وتحررا من كل شيء، قريبا جدا من الطبيعة والحيوانات وهو المعتد بحبه لابن عربي الذي يقول "لن تبلغ من الدين شيئا حتى توّقر كل الخلائق".
رحل ياسر بعد إن انتصر على الحياة وقدّم لها أفضل نسخة منه، قاوم جشع الرأسمالية والعولمة ومجتمع التنميط والمظاهر وكان يملك القدرة على مقاطعة المسارح الكبرى و بريق الشهرة والمهرجانات الصاخبة ليحتمي بعيون جمهور يراه قريبا، يرى لمعان عيونه ويحس به في الفضاءات البديلة، هناك سحر ما في المسارح الصغيرة، سحر ما في الشوارع وفي كل الأحياء حيث يحب أن "يغني ويعلي بالصوت يغني لحلمة عمرها ماتموت".